حين يحاكم الإسرائيلي نفسه

27

سادن المحرقة ..

    حين يحاكم الإسرائيلي نفسه

بقلم : د. منير الحايك ( روائي وأكاديمي)

عندما خلق غسان كنفاني شخصيات يهودية وحاورتها شخصياته الفلسطينية في نصوصه أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، لم يكن الأمر سهلًا عليه ولم يكن قبول هذه الشخصيات سهلًا على المتلقّي الفلسطيني والعربي، وفي أيامنا هذه التي نعدّ شهداءنا بالآلاف منذ سنة ويزيد، بين لبنان وفلسطين، تأتي رواية “سادن المحرقة” (دار الآداب 2024) في ظلّ ظروف قد لا يقبل فيها المتلقي العربي أن يستمع إلى شخصية يهودية ويغوص في أعماقها وفي حسّها الإنساني ومشكلاتها وأزماتها وصراعاتها النفسية، بوصف ذلك الشخص إنسانًا، لا عدوًّا عنصريًّا قاتلًا مرتكبًا للمجازر.

                      وقبل أن أدخل في تفصيل النص، سأبدأ من عبارة مُلِحّة رافقتني منذ الصفحات الأولى، هي ليست “قناع بلون السماء 2″، هي رواية جديدة بفكرة جديدة. فصحيح أن النصين يرتبطان بشخصيتي نور وأور، ولكنني لم أستطع اعتبارها جزءًا ثانيًّا، ولكن لا ألوم الدار والكاتب والمحرّر، فالأمور التسويقية لا بدّ منها.

                  هي قصة أور، الشاب “الإسرائيلي” (وهنا سأستخدم التسمية لأجاري النصّ لأنها كانت مبرَّرة) الذي انتحل نور الشهدي شخصيته، نعلم ذلك قُبَيل منتصف النص، أور الذي يتعلّم العربية مع معلّمته وصديقته مريم، ويزور طبيبته النفسية هداس على الدوام، لأنه يعاني كما يخبرنا النص من البوست تراوما، يكتب عن نفسه بطلب من طبيبته، ولكنه يعتمد الكتابة بضمير الغائب، ولهذا الأمر الكثير مما نعرفه فيما بعد. أور الذي أصبح يحلم بالعربية، والذي يخبرنا الكثيرَ عن حياته وعن ذكرياته وعن أزماته. ولكن لماذا كتب عنه خندقجي بهذه التفاصيل، وأنسنه إلى درجة جعلنا نتعاطف معه ونقبله ونستمع إليه؟ أور الذي يشارك في حرب تموز في جنوب لبنان، والذي يُقتَل أخاه جدعون على يد المقاومة في الضفّة.

                    أما والده، والذي يشاركه الكثير من الأحاديث والأسئلة الكبيرة عندما يزوره في المستشفى، لأنه في كوما منذ سنوات، فقد شارك في الحروب الأولى ومجازرها، ماتت أمه وجدته وجده بالكورونا وغيرها،

                 تركته حبيبةٌ بسبب وضعه النفسي، وحبيبة أخرى عندما تكتشف بأنها مثلية… يستمر بالسرد عن نفسه، ويكتب عنها بصيغة الغائب، إلى أن تأتيه أيالا، التي نعرفها من “قناع بلون السماء”، ومن هناك يأخذ النص منعطفًا آخر، حيث يقرر أور البحث عن نور الشهدي. تركيبة سياقية ودرامية متوقَّعة، يتوقّعها القارئ منذ بداية الرواية، ولكن هل ستصدق جميع توقّعاته؟ يوهمنا النصّ بذلك، ولكن المتلقي ينسى أنه يقرأ لكاتب محترف، فبأسلوبه السلس والعذب، وبالواقعية التي توهم بالسهولة، يجعلكَ تظنّ بأنّك كنت تعرف ما سيحصل.

                   أما لو توقّفت وحاولت التوقّع، فستقف حائرًا! عندها تعلم أنك مأخوذ بالسرد، ومأخوذ بالقصة التي، تعود بك إلى أحداث تعرفها سابقًا لو قرأت “قناع بلون السماء”، ولو أنك لم تقرأها، فلا مشكلة مع باسم خندقجي، لأنك أمام نصّ متكامل في عناصره وتشكيلاتها وعلاقاتها. وهنا أؤكّد على أننا نظلم “سادن المحرقة” عندما نربطها بسابقتها.

                عندما كتبتُ عن “قناع بلون السماء” قلتُ إنني بدأتها متعاطفًا مع الكاتب، ولكنني بعد صفحاتها الأولى نسيتُ التعاطف وأكملتُ مع حرفية عالية لكاتب مثقّف وصاحب همّ وقضايا كبرى، أما مع هذا النص، فقد بدأته معدًّا أسلحتي الهجومية إن هو لم يرتقِ إلى ما توقّعته وانتظرته، وهنا أدخل في تفاصيل التقنيات والجديد.

                      أقول إنني لم أتقبل التعاطي مع أور الإنسان في البداية، وقلتُ في نفسي إن الدار والمحرر قد عجّلا في النشر وإنّ هذه المرحلة ليست مرحلة القراءة عن أور الإنسان، ولكنني، وبذكاء الكاتب الذي لم يفاجئني طبعًا.

                عرفت ما يريد هذا الأسير أن يوصله إلينا.

                    نستمع إلى هذا الإنسان، ونسمع منه أسماء الأمكنة كما يريد هو، ويستفزّنا هذا كله ونحن نقرأ، ولا يدافع أحد بقوة عن الأمكنة، حتى مريم لم يكن حضورها كحضور سماء اسماعيل، ولو أنها حضرت مثلها لكان الأمر مبتذلًا جدًّا، فكلّ شخصية كانت حاضرة لسبب. أور الذي كان يحاور طبيبته، ويحاور مريم، ويحاور نفسه ويحاسبها، كان الغاية بنفسه، فكما جعلت الرواية من الشخصية الأوروبية تتبنى سرديتنا في “قناع بلون السماء” وتواجه أيالابها، جعل خندقجي من أور، الجندي الأشكينازي

التعليقات مغلقة.

Headlines
الاخبار::