الراية” تقتفي أثر ابن الشمال القسنطيني المناضل في عيد النصر

المجاهد حمودي العربي ابن بلدية زيغود يوسف..حين يصنع أبطال الظل الرموز

بورتريه من إعداد: و. زاوي

                     لم يكن المجاهد حمودي العربي إلا بطلا من أبطال الظل الذين قدموا الكثير دون ضجيج ولا احتفاء كبيرين، ابن الشمال القسنطينيالذي ساهم في بروز رموز للثورة الجزائرية ودفع بها للأمام، حيث كان منأوائل سكان زيغود يوسف الذين كانوا يحملون شعلة الثورة في صدروهم، التحق مبكرا بالجبال وحمل السلاح وأبرز حكمة في التعامل والقيادة ووعيا كبيرا برسالته النضالية، كما تقدم الصفوف الأولى ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 بمسقط رأسه قرية السمندو رفقة البطلين زيغود يوسف وديدوش مراد.

وعي سياسي مبكر لابن الشمال القسنطيني

                      ولد البطل “حمودي العربي” المدعو بوبغلفي 27 أكتوبر من سنة 1907 بالسمندو بلدية زيغود يوسف حاليا، انتقل في سن مبكرة إلى الخرفان بلدية اولاد أحبابة، أين أدخله والده الكتائب القرآنية ليتعلم ما تيسر من القرآن الكريم ويتفقه في الدين الإسلامي الحنيف، وعندما أصبح شابا يافعا عمل في مساعدة والده على خدمة الأرض بالموازاة مع متابعته الدروس التي يلقيها الشيخ “عبد الحميد ابن باديسبالجامع الأخضر، حيث تشبع المعني بالقيم الروحية والوطنية ما زرع بداخله فضولا لفهم ما حوله وتكوين مواقف سوية اتجاه مختلف القضايا، وحتى حين علم من زميله “بولالةبلقاسم بن الطيب” عن صدور مجلة “نجم شمال إفريقيا” في فرنسا باللغة الفرسية وجهله بهذه اللغة كان الأخير يترجم له مضمون المجلة التي كانت في أغلبها تنشر أفكارا ترسخ قيم الدفاع عن الوطن وتحريره، ليستمر في متابعة المستجدات السياسية والاختلاط برجالاتها وكذا المشاركة في نشاطات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن هنا بالضبط بزغ نجم حموديالعربي وخلقت بداخله بذرة الثورة التي كان من أهم أبطالها بالشمال القسنطيني.

شخصية قوية بالغة الحكمة ودوره في بروز زيغود يوسف

                         ويذكر أنه حين أفرج عن “الطيب العقبي ” بعد حادثة قتل إمام الجزائر، كوّن العلامة ابن باديس” لجنة لملاقاته وتهنئته كان من ضمن أفرادها  “حمودي العربي” أحد الممثلين الاثنين لبلدية زيغود يوسف أو السمندو مثلما كان يطلق عليه حينها، وحمل المعنيان معهما مبلغا ماليا قدره 400 فرنك فرنسي كهدية للمفرج عنه، هذا الأخير الذي اعتذرعن تسلمها وطلب من مبعوثي المنطقة استغلالها في شراء زرابي لمسجد القرية وهو ما فعله الرجلان، غير أنه كاد يتسبب في مشكلة لدى أعيان المسجد والقائمين عليه لولا تدخل “السي العربي” الذي قطع كل نقاش وبكل حزم أنهى المشكلة في مهدها.

                           ومن المواقف الذي تذكر للبطل أنه رفقة الطيب الثعالبي المدعو سي علال كان له الفضل في انضمام الرمز زيغود يوسف إلى الحركة الوطنية، كما أنه كان من الموقعين على رسالة احتجاج رفقة بعض المناضلين تنديدا بتقسيم فلسطين وذلك خلال المؤتمر الاسلامي بفرنسا سنة1936.

حضور سياسي مميز

                         كان العربي حمودي حاضرا في المجلس التأسيسي لحزب فرحات عباس بمشاركة أسماء بارزة كابن باديسوابن جلول وبن خلاف وكذا مصاليالحاج، وبعد فترة وجيزة من ذلك بوشرت الاتصالات به للانخراط في حزب الشعب الجزائري، وهو ما كان بمعية صديقه بولالة محمد بن الطيب ومالكي محمد الصالح، والذين عملوا على توسيع القاعدة النضالية للحزب بالمنطقة.

تقدمه مسيرة 8 ماي 1945 والقبض عليه

                      ولم يتغيب حمودي العربي عن أحداث 08 ماي 1945 بتقدمه المسيرة السلمية التي أقيمت بذلك التاريخ حاملا العلم الوطني، حيث وبالنظر للتنظيم المحكم الذي كان يمتاز به حزب الشعب في السمندو فإنه استطاع تنظيم مسيرة سلمية كبرى بعد اجتماع البطل زيغود يوسف وقرار التنظيم الذي تم خلاله الاجماع على رفع الراية من طرف حمودي العربي الذي تسلمها من يد زيغود يوسف وسار بهافي مقدمة التظاهرة السلمية التي جاب خلالها المتظاهرون شوارع القرية، منشدين رفقة عناصر الكشافة الإسلامية الجزائرية والجماهير الشعبية نشيد “من جبالنا، قبل أن يتم رفع العلم الوطني على شرفة منزل معمر فرنسي، أين انتظم مهرجان خطابيتكلمفيه السي العربي عن الحرية والاستقلال، ليتم القبض عليه ويطلق سراحهلاحقا.

رحلة من السجن والتعذيب وصمود أسطوري

                              وفي المرة الثانية التي قبض المستعمر على العربي حمودي تعرض هذا الأخير للضرب والتعذيب وعديد محاولات الضغط لأجل نزع اعتراف عن المسؤول، كما دخل في شجار بطولي مع ضابط، وحين كان يهدد بالقتل من طرف مسؤول عسكري استفزه ابن السمندو وتحداه ما جعله  يضربه حتى أغمي عليه، وبعد إيقاف عملية استنطاقه أعيد لسجن القرية ثم نقل لسجن الكدية بقسنطينة.

مجنون برتبة رجل استثنائي!

                          وحسب ما رواه المجاهد فإنه وحال وصوله للسجن بلغه الجندي الذي فتح سلاله أن “زيغود يوسف” يسأله إن كان قد أخبرهم أي شيء ليرد البطل بما معناه أن جميع محاولات الفرنسيين لنزع اعتراف منهباءت بالفشل، حيث بقى المعني نصف عام بسجن الكدية وفي شهر نوفمبر سنة 1945 خرج من السجن بعد سجال مع مصور من رجال البوليس انتهىبتدخل الشيخ الغسيري الذي نصحه بأن لا يأخذوا كلامه محمل الجد باعتباره مجنونا ! في حين لم تكن فرنسا تدرك أن المجنون الذي كان معتقلا في سجونها كان من أخطر وأهم المناضلين الذين يهددون أمنها وسلامتها.

سياسي متمرد يلقى الإجماع

                              وفي سنة 1947 رشح البطل حمودي العربي من طرف حركة الانتصار للحريات الديمقراطية المسؤولة عن دوار الخرفان بلدية أولاد حبابة المختلطة، وفاز في هذه المعركة فوزا ساحقا رغم المكائد الاستعماريةومحاولة التزوير التي مورست أنداك ولكنه، وكعادته الثائرة أبدى عصيانا للحاكم العسكري ولم يمتثل لأوامره وطلباته الإستفزازية، ليرد عليه بطريقة ذكية فيها من عزة النفس وكبريائها ما جعلهم يقبضون عليه مرة أخرى لمدة ثمانية أيام.

التحاقه بالمنظمة السرية واستشهاد زوجته الحامل أثناء التعذيب

                        مع ظهور المنظمة السرية من طرف حركة انتصار الحريات الديمقراطية شكل زيغوديوسف فوجا سريا في دواوير الصوادق والكرماتوالخرفان وكان بطلنا من بين أعضائه البارزين، حيث وعلى إثر حادثة تبسة كشف بوليس العدو حقيقةالمنظمة السرية وتمكنوا من إلقاء القبض على بعض الأعضاء الذين زج بهمفي سجن عنابة، بينما تمكن بوبغل من مخادعة العدو ثم الفرار بعدما أعلم بقية الرفاق .

                         وعندما فشل العدو في إلقاء القبض على هؤلاء الأبطال لجأ إلى حيلة القبض على زوجاتهم ظنا منه أن ذلك سيضعفهم ويجعلهم يستسلمون في أقرب فرصة، حيث عذبت النسوة المقبوض عليهن عذابا شديدا لمدة خمسة عشرة يوما قبل أنيطلق سراحهن ويعدن إلى منازلهن، في حين أن زوجة سي العربيالتي كانت حاملا توفيت جراء التعذيب الذيتلقته على يد بوليس العدو.

هروب زيغود من السجن والتئام الشمل

                        بقي بطلنا مختفيا في جبال المنطقة ومداشرها كالخرفان والكرمات والصوادق والتوارة والتفاحة وغيرها، وحين هرب زيغود يوسف في ليلة 21 أفريل 1951 من سجن عنابة رفقة ثلاثة من رفقائه في قيادة المنظمة الخاصة، التحق المعنيون بدوار”الصوادق” وهناك وجدوا مأواهم ومناصرتهم والتأم الشمل من جديدبين الرفقاء وبدأ العمل الثوري من جديد تحت قيادة البطل “زيغوديوسف، ليكلف “حمودي العربي” رفقة مجموعة من المناضلينبربط الاتصال بمنطقة الأوراس لتهيئة الأجواء وتحضير الإقامة السرية للقائد “زيغود يوسف” الذي نشط لفترة في هذه المنطقة بعيدا عن أعين البوليس السري واستمر هذا العمل لما بعد اندلاعثورة أول نوفمبر 1954، حيث تواصل النشاط الثوري السري في ناحية الخرفان والكرماتوالصوادق، أين كان العربي حمودي من أبرز الرجال الذين كانوا في مقدمة الصفوف وافتك احترام العدو قبل الصديق.

بطل من مفجري الثورة ورجل ميدان وقتال

                   وينتمي “حمودي العربي” إلى عائلة زيغود يوسف التي كانت المدرسة الأساسية في تكوين السياسيين في الخرفان والكرمات والصوادقوبصفة عامة في منطقة السمندو، ممن فجروا الثورة التحريرية ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 يتقدمهم ديدوش مراد، زيغوديوسف، بوشريحة بولعراسوغيرهم، لتبدأ مرحلةجديدة من مرحلة البطولات، حيث قد أثمرت جهود هؤلاء الرجال العظماء بالتحاق سكان الكرمات والخرفان والصوادق والتوارةصغارا وكبارا، رغم نهب أرزاقهم وحرق ديارهم وتنفيذ في حقهم المجازرخاصة فيما يتعلق بمجزرة التوارة بتاريخ 10 أوت 1956والتي ذهب ضحيتها أكثر من 140 شهيدا صاروا عنوانا للثورة والثوار، وتوسعت قاعدة أنصار الثورة في كل مكان، ما حتم على القيادة تنويع أساليب العمل الثوري لمواجهة المرحلة الجديدة.

                   وبعد مساهمته في مرحلة الانطلاق بكل فخر واعتزاز رفقةقادة عظام أمثال “دیدوش مراد” و”زیغود يوسف“، شارك المعني في عدة معارك جرت بمنطقة السمندو كالشمالي، فج الرمال لمغزية الغرازلة وغيرها، فيما وعندما نظم الشهيد ” زيغود يوسف” هجومات 20 أوت 1955 على الشمال القسنطيني كان “حمودي العربي” من بين المسؤولين البارزين الذين عملوا بشكل قوي وسري في التحضير والتنفيذ وكان ضمن الفوج الذي يرأسه المجاهد عبد المجيد كحل الرأس بالكرمات بمساعدة بوقدوم بشير، قوقة عمار، أحمد الساسي (لشهب احمد)، وهكذا جاءت هجومات 20 أوت 1955 لتزيد الثورة انتشارا وتوسعا ولهيبا.

الجهاد من خارج الوطن والعودة للبناء بعد الاستقلال

                             وفي سنة 1957 أوفد البطل “حمودي العربي” إلى تونس وبقي يناضل من هناك رفقة عبد الله بن طوبال وعلي منجلي وغيرهم من كبار مسؤولي الثورة، وبعد الاستقلال أبي “حمودي العربي” إلا أن يبقى مناضلا ومجاهدا في معركة البناء والتشييد، فتقلد عدة مسؤوليات في حزب جبهة التحرير الوطني والمنظمة الوطنية للمجاهدين على مستوى قسمتي بلدية أولاد أحبابة وبلدية زيغود يوسف، ولم يدخر جهدا إلى غاية إصابتهبمرض عضال ألزمه الفراش ليخطفه الموت بتاريخ 10 جانفي 1982، مخلفا وراءه تاريخا من النضال والبطولة.

هكذا تحدث سي العربي في حياته

                     وعلى الصعيد الإنساني سجل التاريخ مواقف غير اعتيادية لسي العربي والذي قتل أحد أبنائه لمدعو محمد الأمين في إحدى مراكز الثورة إثر رصاصة طائشة من احد الجنود، وحين أراد المجاهدون معاقبة الجندي رفض بوبغل الأمر مردّدا بأن الفقيد ابنه وأنه لا يريد أن يفقد ابنا آخر، كما يروى أن أحد الضباط الفرنسيين ناداه باستعمال جملة Viens ici فما كان منه إلا أن رفض الأمر بتأكيده أنه في وطنه وأن الجملة المعنية لا توجه سوى للكلاب، لنختم أخيرا بمقولته الشهيرة “الاستعمار لكحل أطردناه والاستعمار الأبيض جاي ما نقواه” والتي تمثل نقطة من بحر حكم وأحداث ومواقف ومحطات من حياة الرجل التي لا يمكن أن تسع أي كتب،باعتباره رقما مهما في تاريخ منطقة زيغود يوسف التي قدمت وضربت أمثلة مهمة في الوطنية والرجولة.